الجمعة، 15 نوفمبر 2013


خيانة المثقف بين سعيد وجرامشي
يحيل عنوان كتاب إدوارد سعيد (خيانة المثقفين) إلى العنوان الضد في عمل إدوارد سعيد الفكري، والذي ارتكز عليه كثيراً في تحليلاته لمختلف القضايا الثقافية والفكرية في المجتمع الإنساني بشكل عام، وفي المجتمع العربي بشكل خاص، إنه عنوان (المثقف العضوي). هذا العنوان الفكري المتفاعل مع قضايا المجتمع الذي ابتدعه الفيلسوف الإيطالي والمناضل الماركسي أنطونيو جرامشي، الذي ولد عام 1891، وتوفي تحت آلام التعذيب في سجون موسوليني عام 1937، مدافعاً عن قضايا الإنسان وحقوقه العادلة في الحياة والحرية والكرامة. http://www.4shared.com/office/_grSTtwY/_online.htm، متحركاً في المجتمع، مندمجاً بقضاياه. لم يجد جرامشي، في سبيل بحثه عن حقوق العمال والطبقة المسحوقة في المجتمع، فائدة لهذا المجتمع من مثقف يراكم معرفة نظرية أو تنظيرية منفصلاً عن الحياة وعن المجتمع، بل وجد أن المثقف الحقيقي هو المثقف العضوي الذي يحيا بقضايا الناس وتفاعله معها، هو المثقف الذي يعايش معاناة المجتمع، وطبقاته العاملة، وفئاته المهمشة. كانت فلسفة "البراكسيس" هي الجماع التنظيري لعمل جرامشي، وهي التي تعني الممارسة العملية للفكر النظري، وهي لا تعني الفصل المتعسف أو الساذج بين "النظري" و"العملي"، لكنها تشير إلى الفهم العميق لجدلية العلاقة المتبادلة بين التنظير والممارسة، في سبيل تكوين وعي أعمق بالواقع من ناحية وبالفلسفة والتنظير من ناحية أخرى. هي التعامل المباشر مع الواقع قبل التحليق في خيالات التنظير التي تأتي بالكثير من السلبيات، أقلها جعل المثقف يعيش في عالمه المنفصل.
كانت المعادلة الصعبة في حياة إدوارد سعيد هي أن يجمع بين مفهوم "المثقف العضوي" الجرامشية الماركسية في سياقها وفي مفهومها، وثقافته الليبرالية، وقد وجد من اندماجه في قضايا مجتمعه الأصلي (فلسطين) مرتكزاً لتحقيق كيانه في الممارسة الثقافية كمثقف عضوي، أما الجانب الآخر من ممارساته فقد اعتمدت على الخروج من أسوار الجامعة، بما كان ينظر لها على أنها تعمل على التواطؤ مع الأنظمة السياسية والتبرير لها، في أشد الأنظمة ديمقراطية وهي أمريكا، وأن الوسيلة الوحيدة للخروج بالجامعة من هذا الحصار الذي تعمل السلطات السياسية على تقويته، من خلال سياسة المنع والمنح، هو أن يتحول المثقف/ الأستاذ الجامعي إلى المجتمع، أن ينفتح على فضاء الوجود الإنساني للدفاع عن المضطهدين والمهمشين.
في إطار ما سبق كتب إدوارد سعيد كتابه الأشهر الاستشراق   http://www.4shared.com/office/sRgn7MoK/__-_.htm، باحثاً في أغوار التاريخ والثقافة والأبنية الفكرية المختلفة عن جوانب صنع صورة الآخر من خلال القهر الاستعماري والسيطرة بصورها المختلفة من خلال الفكر والثقافة وصنع الذهنية المستعلية/ الغربية، والذهنية الخانعة/ الشرقية. وقد أثار الكتاب الكثير من المناقشات على المستوى العربي، بعد أن أثار الكثير من الجدل والحوار وقدمت حوله الدراسات على المستوى العالمي.
وبناء على ما سبق نستطيع أن ننظر في كتاباته التي تتحدث عن "خيانة المثقفين"، والتي يبدو أن كتابنا الحالي يجمع بين دفتيه المقالات التي كتبت فيها، فهي خيانة المثقف لقضايا المجتمع الذي يعيش فيه، خيانة الاندماج الفعلي لحرية الإنسان وحقوقه.
نستطيع أن ننظر مقارنين بين مفهوم "المثقف العضوي" و"المثقف الخائن" في تداعيات وتبعات الثورات العربية، حيث نجد أن طليعة المثقفين من صحفيين وكتّــاب وأصحاب رأي ورؤساء وأعضاء أحزاب هم أول من يتسابق للحوار مع الأنظمة التي أتخمت من كثرة امتصاص دماء الناس وثرواتهم، بينما الشباب الفاعلين والمؤثرين والداعين إلى الثورة، والذين دفعوا دماءهم في سبيلها هم من يصرون على تغيير "راديكالي" شامل يأخذ كل عفونات الأنظمة القديمة في طريقه، مستعدين في سبيل دعوتهم وإصرارهم عليها دفع المزيد من الدماء والتضحيات.. فهل نحن بإزاء تبلور وظهور مثقف جديد في مجتمعاتنا العربية يظهر للمرة الأولى في تاريخها هو المثقف العضوي؟.. نستطيع أن نجيب بنعم واثقين من حكمنا بناء على ما حدث في العام الماضي وإلى الآن، لكننا لا يمكن أن نطمئن للواقع الفعلي لتحول المثقف العضوي إلى "جيل" مؤثر في مجمل تاريخنا إلا عندما يتلاشى "المثقف الخائن" الساعي إلى فتات السلطة وإغراءاتها، سواء بإجراءات ثورية عندما يمتلك الثوار القوة الكافية، أو بمراجعة شاملة للضمير الثقافي لدى الإنتلجنسيا العربية المدعية، وهذا مستبعد.. لكن الرهان على الزمان وفعالياته مع متغيرات ما تموج به مجتمعاتنا من فعاليات إيجابية لأجيال جديدة أصبحت تفرض إرادتها على السلطتين: السلطة الخشنة (سلطة السلاح، بأوهام تمسك القائمين عليها بوهم الانقلاب المنقرض) والسلطة الناعمة (سلطة الأبنية الثقافية التي في طريقها للانهيار).

الاثنين، 28 أكتوبر 2013


الوقت والحنين للبطء
محمد إسماعيل اللباني
  في روايته المتميزة "البطء" يناقش ميلان كونديرا موقف الإنسان من الوقت، وكيف تحول إنسان العصر الحديث إلى إنسان يلتهم الوقت دون رحمة أو تمهل، والوقت أيضاً يلتهمه دون توقف، ودون وعي منه إلا بعد فوات الأوان، فبطل الرواية يتحسر على أيام "البطء" و"التمهل" في "تذوق" أنشطة الحياة المختلفة، فنجده يقول: "لمَ اختفت متعة البطء؟ آه، أين هم متسكعو الزمن الغابر؟ أين أبطال الأغاني الشعبية الكسالى، هؤلاء المتشردون الذين يتسكعون من طاحونة إلى أخرى وينامون تحت أجمل نجمة؟ هل اختفوا باختفاء الدروب الريفية والحقول والغابات والطبيعة؟ يُعرّف أحد الأمثال الشعبية التشيكية كسلهم مجازاً قائلاً: إنهم يتأملون نوافذ الله. ومن يتأمل نوافذ الله لا يسأم أبداً بل يكون سعيداً".
  فمن المؤكد أن إيقاع الحياة وتسارع فعالياتها تختلف من جيل إلى جيل، وتميل بشكل مطرد إلى التسارع وتبتعد عن التمهل. نلاحظ ذلك في حوارات الآباء مع أبنائهم، وحوارات الأجداد مع أحفادهم، فكل طرف منهما على النقيض من الطرف الآخر في النظر للوقت، من حيث سرعة الإنجاز وطريقة تلبية الاحاجات المختلفة من خلال الوقت المخصص لها.
  وفي حقيقة الأمر، وبغض النظر عن اختلافات الأجيال في النظر للوقت، فإن له أهمية خاصة في حياتنا الحديثة، فبه يستطيع الإنسان أن يقضي متطلباته، ومن خلاله يعايش متطلبات الزمن الحالي، الذي قطع فيه الإنسان أماداً طويلة في سرعة إيقاع الحياة، فما كان يتم منذ ثلاثين عاماً مثلاً في شهر، أصبح من الممكن إتمامه الآن في عدة ساعات، إن لم يكن في عدة دقائق. فثورة الاتصالات، وتدفق المعلومات فتحت الطريق أمام الفعالية البشرية لإنجاز الكثير من الأعمال في وقت قصير.
  وعلى الرغم من ذلك فإن مجتمعاتنا العربية لا تشعر بهذا التسارع بالقدر الكافي، فقد ظلت في نقطة رد الفعل على المنتجات الغربية التي تصل بالحياة لهذه السرعة، فجميع الوسائل المعينة على هذا التسارع يتم قبولها بشيء من الخوف والتوجس، ثم بالتقبل البطيء، ثم في النهاية بالقبول المشوب بسوء الاستخدام، فالسيارة التي يجب الحفاظ فيها على قدر من السرعة تسمح بالأمان والحفاظ على حياة الإنسان، وجدنا الإسراف في استنزاف سرعتها بالشكل الذي حولها إلى قنبلة موقوتة تسير على الطريق، والمفارقة العجيبة أن من يتسابقون على الطرقات ويستغلون الطاقة القصوى لسياراتهم هم أنفسهم الذين يتفننون في إضاعة الوقت بشتى الطرق والوسائل! أما في الأمم التي تحافظ على الوقت ولا تهدره نجد الحفاظ على الأرواح أكثر غلبة لديهم، فتكون السرعة بالقدر الذي يحفظ الحياة قدر الإماكن ويحافظ على سلامة الطريق.
  نجد أمثلة كثيرة على السرعة غير النافعة في محيطنا الاجتماعي، فسرعة الحديث أو "التكلم" من الظواهر التي نلاحظها في مجتمعاتنا، وهي السرعة التي تتولد عنها أخطاء في التعبير، وأخطاء في فهم المتلقي لما يقال، فيترتب على ذلك سوء في الفهم والتفاهم، ومثال آخر، نجد أن الشعوب المحافظة على الوقت حريصة على الاستمتاع بوقت الإجازات إلى أقصى درجة ممكنة، أما الشعوب التي لا تعرف قيمته فإننا نجد أن الرغبة في قضاء الإجازة بالشكل الكامل غير متوافرة، فيختلط وقت العمل بوقت الإجازة، ويأتي العامل أو الموظف إلى عمله ليضيع وقته في الشكوى من التعب، بدلاً من إنفاق وقته في إنجاز العمل، وكذلك نجد أن الفصل بين وقت العمل ووقت "الخصوصيات" والحديث عن الأمور الذاتية أو العائلية من سمات احترام الوقت، أما من لا يقدرون الوقت فإن الحديث عن العمل يختلط لديهم بالحديث في الخصوصيات، وخصوصيات الآخرين. أما المفارقة الأوضح في مجتمعاتنا، والتي تحتاج إلى وقفة خاصة لفهم أبعادها وأسبابها فهي أن الجميع يتحدث عن إضاعة الآخرين للوقت وعدم تقدير المواعيد أو المحافظة عليها، والسؤال هو: من الذي يهدر الوقت، إذن، في مجتمعاتنا؟!  

حربائية أم بحث عن الحقيقة
لتغيير الرأي في مجتمعاتنا دلالة سلبية ترتبط بأن الإنسان الذي يغير رأيه في قضية من القضايا، أو يتخذ موقفاً مخالفاً لموقفه السابق من موضوع معين، ما هو إلا إنسان ينقصه "المبدأ". فالمبدأ لدينا يعني الثبات على الموقف دون تبديل أو تعديل، وهو حكم، في واقع الأمر، يرتبط بمجريات العلاقات الاجتماعية المؤدية إلى ميلاد وتربية وتسمين الشخصية الحربائية لدينا، ففي مجتمعاتنا نجد هذه الشخصية التي تتلون بحسب الظروف، وتتغير بحسب المواقف، لا تثبت على حال، ولا تستطيع أن تأخذ منها حكماً على شيء، بل إن ما يحكم حركة حياتها أن تسير الأمور، وفقط، بغض النظر عن المستوى الكيفي الذي تسير به، ما يهمه هو أن يقضي يومه بتحقيق المكاسب وهذه المكاسب لا يعرفها إلا إذا كانت، حصراً، مكاسب مادية، لا يهمه من العالم حوله سوى ألا يصطدم، فهو يؤثر السلامة المؤدية إلى الخمول، يعمل، في مظهره العام، ولا يعمل في الجوهر والحقيقة، يذهب في ترويج ذاته، ويقدم جميع الأدلة والبراهين على امتلائه بالأفكار والأشياء والإنجازات، وهو، في الحقيقة، خالي الوفاض إلا من القدرة على "التسويق" وأنت، في النهاية" في حيرة من أمرك للإمساك به فلا تستطيع، فليست له أخطاء تركها، أو إنجازات حققها.
هذا الإنسان المتسم بهذه الصفات يختلف عمن يأخذ الحياة بالجدية اللازمة فيصل إلى قناعة اليوم تختلف عن قناعة الأمس، ولأنه دائم البحث عن الحقيقة يصل إلى حقيقة جديدة قد يستكين إليها مؤقتاً أفضل لديه من الحقيقة التي اقتنع بها مسبقاً، ولأنه أخلاقي في تعامله مع ذاته فإنه يعتنق الفكرة التي رأى فيها إمكانية الصواب عن سابقتها ولكي يكون صادقاً في محيطه الإنساني فإنه يفصح عن قناعاته الجديدة لمن يحيط به من الناس، وهنا تأتي مرحلة الالتباس، فعند التلقي تختلف طريقته بحسب فهم كل إنسان من المتلقين، بحسب أخلاقياته وفكره ومستواه العقلي، لنراه، عند القليلين، باحثاً عن الحقيقة، وعند الأكثرية متلوناً بحسب المصلحة، وتغير الأحوال، وهؤلاء الذين يرون فيه هذه الرؤية الأخيرة لا يستطيعون أن يروا غيرها، لأسباب تعود إلى طبيعة تكوينهم، وأسباب ترجع إلى المستوى الأخلاقي السائد في المجتمع؛ لأنهم لا يستطيعون تفسير شيء إلا من خلال المصلحة الشخصية، وتحديداً، المصلحة المادية، فما الفرق، إذن، بين الحربائية والبحث عن الحقيقة؟     

الاثنين، 4 فبراير 2013


ساراماجو.. أديب عاش بالذاكرة ومات مدافعاً عن القضايا العادلة
محمد إسماعيل اللباني
نشأ معجوناً بطين الأرض، وتربى في ظل ظروف أسرية صعبة، فلم ينس تلك المرحلة الأولى من حياته طوال عمره، حيث كان الأب مزارعاً بسيطاً لا يكفي دخله من الأرض التي يزرعها أساسيات حياته وحياة أبنائه، ثم بعد ذلك عمل شرطياً، فتحسنت أموره المادية، لكن ليس بالشكل الذي يسمح بتربية الابن تربية مرفهة. كانت ذكريات الريف البرتغالي قد مثلت له نبعاً صافياً متدفقاً في مراحل عمره التالية، والتي استطاع من خلال تلك الذاكرة أن يؤسس لمرحلة من النضج الإنساني والوعي الفكري، بناء على ذكريات طفولة مشبعة بالعديد من التجارب الغنية، فكانت ذاكرته هي أداته التي تمثل محور الارتكاز والتي يعمل من خلالها على مواجهة الحياة والتعامل معها، فأخذ يكافح سخف العالم المحيط به من خلال ذاكرة أبسط ما يقال عنها إنها ذاكرة لا تلين.. إنه جوزيه ساراماجو الأديب البرتغالي الحاصل على جائزة نوبل في الآداب عام 1998م، وقد ولد عام 1922م، وتوفي يوم الجمعة في الـ 18 من يونيو 2010م، بعد عمر من الكتابة الأدبية والمشاركة في السياسة والعمل العام وإثارة الجدل.
صانع أقفال
يُذكر دائماً أنه بدأ حياة مهنية بسيطة، فقد عمل كميكانيكي وصانع أقفال، وفي الحقيقة أن هذه المهنة لم تكن، كما نعتقدها، دليلاً على تدنٍ كامل في حياته الاجتماعية الأسرية أو تواضع في قدراته الذهنية في الدراسة، بل كانت تخصصاً دراسياً، حيث كان ساراماجو متفوقاً في دراسته، ولكن المدرسة التي كانت متاحة له، أو متاحة ربما للمتواضعين في الدخل الاقتصادي، أو بحسب المنطقة الجغرافية التي تنتمي إليها أسرته وقتها، هي المدارس المهنية. فالتحق بمدرسة صناعية، وتخصص دراسياً في صناعة الأقفال، يقول ساراماجو عن هذه الفترة: "انتقلت من "ليسيه جيل فيسنتي" إلى مدرسة ألفونسو دومينجيس الصناعية بخبريجاس، وكنت أبذل قصارى جهدي لأتعلم البرتغالية، والرياضيات، والفيزياء، والكيمياء، وتصميم الماكينات، والميكانيكا، والتاريخ، بالإضافة لتعلم شيء من الفرنسية والآداب (في هذا الزمن، وليصبكم الذهول، كانت الفرنسية والآداب تدرس في المدارس الصناعية..)".(1)
ولكن الخطأ الذي يقع فيه كثير ممن يتحدثون عن سيرة حياة ساراماجو في الصحافة العربية يعتقدون أنه ترك الدراسة ليعمل بالميكانيكا وصناعة الأقفال، ولكن الحقيقة أنه اشتغل بالميكانيكا وصناعة الأقفال بناء على تخصصه الدراسي، ثم انتقل للعمل بالصحافة وبعد ذلك في الترجمة، ومن ثم تفرغ للكتابة الأدبية.
ولد ساراماجو في تلك القرية الصغيرة المتواضعة التي تُدعى "أزينهاجا" وتقع في وسط البرتغال، ولا يفوته أن يلفت النظر إلى مصدر اشتقاق الكلمة فيقول إنها مصطلح مشتق من الكلمة العربية: الزنقة (الشارع الضيق)، كما يشير إلى أن جده الكبير كان عربياً (يقصد أباه لجده مباشرة)، وعن مكان ميلاده الأول يقول: "كما لو كان محل ميلادي الأول جاء نتيجة خطأ من أخطاء الصدفة أو شرود القدر، الذي كان بيده أن يصحح خطأه، لكن ذلك لم يحدث..".(2)
وهو بذلك يمهد لتوضيح سرعة انتقال الأسرة للشبونة، لكنه ظل وفياً لمسقط رأسه ولمكان مولده، وخاصة أن بقية أفراع العائلة ظلت مقيمة في هذه القرية.
أما عن اسمه فيعده أحد الأخطاء الأخرى التي كان له نصيب منها في الحياة، فيقول عن اسمه الأخير: "فساراماجو هذا ليس لقب أبي، وإنما اسم الشهرة الذي عُرفت به عائلتي في القرية. فعندما ذهب أبي إلى سجل جوليجا المدني ليسجل ميلاد ابنه الثاني حدث أن الموظف (وكان يدعى سليفينو) كان سكراناً وغاضباً (ظل أبي يتهمه بذلك دائماً) وتحت تأثير الكحول وبدون أن يلاحظ أحد تزوير الاسم، قرر، على هواه ومن تلقاء ذاته، أن يضيف اسم ساراماجو إلى الاسم المقتضب: جوزيه دي سوسا، الذي كان أبي يطمح أن أحمله. ثم يضيف ساخراً: "وأخيراً، فإنه بهذه الطريقة، وبفضل تدخل كل الأنوار الإلهية، أقصد بالطبع الإله باكو، إله الخمر وكل هؤلاء الذين يتجاوزون الحدود المعقولة عند شربه، لم أكن في حاجة إلى اسم مستعار لأوقع في المستقبل كتبي، كان من حظي، هذا الحظ السعيد، أنني لم أولد في واحدة من عائلات أزينهاجا التي وجب عليها في هذا الوقت وخلال سنوات طوال، أن يحاربوا أسماء شهرتهم البغيضة مثل بيتشاتادا، كولوروتو كارالهادا".(3)
غذاء الذاكرة
مثلت الذاكرة غذاء حياً لساراماجو، الذي ظل دائم البحث والتنقيب عن محتوياتها ليكتب رواياته، كما كانت أساساً لصنع شخصيته وتطور تركيبتها الإنسانية، وقد اتضح ذلك من خلال كتابة سيرته الذاتية "الذكريات الصغيرة"، فمن العبارات التي تعبر عن أهمية التركيز على الذاكرة لديه، تكرار العبارات: "إن لم تخني الذاكرة".. "إن لم تكن ذاكرتي مزيفة".. إن "كان اعتقادي صحيحاً"، لكن ما يؤكد أن ذاكرته التي يتشكك فيها كانت قوية بشكل أكثر نسبياً من المعتاد أنه يذكر صراحة، ومن خلال عدة أحداث أنه يرجع إلى ذاكرته الفضل في التفوق الدراسي في سنواته الأولى وفي مراحل الدراسة المتوسطة، كما يقول ساراماجو متحرياً عن دقة ذاكرته: "قد تسألونني كيف أنا مطلع على كل هذه التفاصيل بعد مرور كل هذا الزمن. القصة طويلة لكن يمكن تلخيصها في عبارات قليلة. عندما واتتني منذ فترة طويلة فكرة كتابة ذكريات وتجارب الفترة التي كنت فيها صغيراً، عبر بخاطري أنني يجب أن أتحدث عن موت أخي فرانسيسكو. (لأن الحياة التي عاشها كانت قليلة). ومنذ الأبد وأنا أسمع عائلتي تقول إنه قد مات في معهد "كامارا بيستانا البكتيريولوجي"، نتيجة خناق دفتريائي. بادئاً التقصي، كتبت لمعهد كامارا بيستانا الذين لطفاً أجابوني بأن أرشيفاتهم ليس بها دخول أي طفل ذي أربعة أعوام باسم فرانسيسكو سوسا. وأرسلوا لي، أظن كتعويض عن خيبة الأمل التي سببوها لي، صورة من تقييد قبولي في يوم أبريل سنة 1928 (وتم خروجي في 11 من نفس الشهر)، باسم جوزيه سوسا".(4)
وبعد ذلك يظل الكاتب باحثاً عن أخيه في سجلات السجل المدني أو سجلات قيد المواليد، ليلفت إلى أن هذه التجربة قد أفادته في كتابة رواية "كل الأسماء"، وأنها لم تكن لتظهر بالشكل الذي ظهرت عليه لولا انغماسة في أرشيفات السجلات المدنية.
فترة الانقطاع
كثير من الأدباء يمرون بفترة من الانقطاع عن الكتابة، وهذه الفترة قد تكون لمراجعة الذات أو لتحقيق شكل آخر من أشكال الإنتاج الأدبي الذي أنتجوه قبلها والانطلاق إلى مرحلة جديدة، وقد تكون في الغالب رغبة في العودة للذات بعد خروجها للآخرين في أعمال أدبية تمثل قطعة من ذات الأديب ومن كيانه، فيعود إلى ذاته راغباً في لملمة شتاتها الذي تبعثر من خلال نشر عدد من أعماله بين الناس، وهناك الكثير من الأسباب التي سيقت لتفسير هذه الظاهرة التي تكررت عند كثير من الكتاب والأدباء، فنجيب محفوظ مثلاً مر بهذه الفترة وسئل عنها كثيراً، ولكنه تحدث عنها باقتضاب، لأنها فترة، في المحصلة النهائية، صعبة التفسير، ولكن جوزيه ساراماجو طالت فترة انقطاعه أكثر من المعتاد، فقد نشر رواية "أرض الخطيئة" عام 1947م، ثم توقف عن الكتابة لمدة تقترب من العشرين عاماً!! فهل كانت مراجعة للذات أم كانت تراجعاً عن مجال أدبي لم يجد ذاته فيه، وخاصة أنه عاد لعالم الكتابة الأدبية عام 1966 بنشر ديوان شعري بعنوان "قصائد محتملة"؟!
وبعد ذلك تدفقت أعماله الروائية التي نال عنها شهرته العالمية، ومنها: "العمي:، و"عام على وفاة ريكاردوريس"، و"قصة حصار لشبونة"، والرجل المنسوخ"، و"انقطاعات الموت"، و"الطوق الحجري"، وآخر رواياته كانت رواية "رحلة الفيلة"، وقد كانت قضية الإنسان مع الحياة ومعضلاتها هي شغله الدائم في أعماله، واستطاع أن يقدم تنويعات سردية على مستوى عال من الفنية التي تجمع بين السردية الكلاسيكية والأساليب الحداثية والتجريبية المختلفة.
مشاركة فاعلة
لم يكن ساراماجو أديباً منطوياً على عالمه الأدبي، بل كان عضواً سياسياً فاعلاً في مجتمعه، ففي عام 1959م انضم للحزب الشيوعي البرتغالي، وظل عضواً به حتى آخر أيام حياته، وقد عايش فترة الحرب الأهلية الإسبانية (1936 ـ 1939م) المتزامنة مع فترة حكم الدكتاتور العسكري فرانسيسكو فرانكو، وكانت البرتغال ذات ارتباط عضوي تاريخي مع إسبانيا إضافة إلى ما شهده في عام 1974م، عندما أطاح انقلاب عسكري بالدكتاتورية الحاكمة في بلاده، كما كانت البرتغال إحدى الدول الاستعمارية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، والتي تنازلت عن آخر مستعمراتها في أنجولا وموزمبيق بعد الإطاحة بالحكم الديكتاتوري فيها. كلها أحداث شهدها ساراماجو، ومثلت مادة خصبة لعالمه الأدبي، إضافة لما شهدته حياته الأسرية من تقلبات وانتقالات وتعدد في خبرات الحياة التي أتاحت له فرصاً عديدة لمطالعة عوالم إنسانية مختلفة ومعايشة تجارب حياتية أثرت عالمه الأدبي، كما أثرت حياته الفكرية ونوعت من زوايا نظرته لمختلف شؤون الحياة.
يعود جوزيه ساراماجو إلى فترة القرية متحدثاً عنها بالقول: "كانت هذه القرية الفقيرة والخشنة المحاطة بالخضرة والمياه، ذات البيوت المنخفضة الملتفة باللون الرماضي المفضض لأشجار الزيتون المحروقة بهجير الصيف وقسوة الشتاء القارص، الغارقة بمياه الفيضان الذي يصل لأبواب بيوتها، كانت هذه القرية هي المهد الذي اكتمل فيه تكويني، كانت الكيس الذي بداخله كونت النطفة الصغيرة نفسها بكل خيرها وشرها، وحققت ذلك في صمت وسرية وعزلة".(5)
إثارة الجدل
قال عند حصوله على جائزة نوبل: "لو مت في الستين من عمري لم يكن لأحد أن يسمع عني". فقد تأكدت موهبته الأدبية للمجتمع البرتغالي بشكل خاص وللعالم بشكل عام من خلال شهرته المتأخرة، حيث لم يكرس في الأوساط الأدبية إلا عام 1982م عندما نشر روايته "بالتزار وبليموندا"، وكان حصوله على جائزة نوبل في الآداب سبباً مهماً في اتجاه الأنظار إليه، وأصبحت كتاباته وآرائه محل اهتمام من جانب العديد من الجهات فعندما نظر أصحاب الفكر المسيحي المحافظ في روايته "الإنجيل بحسب يسوع المسيح" واجهوها باستهجان كبير، وخاصة من قِبل الكنيسة الكاثوليكية البرتغالية وكذلك استُنكرت من قِبل الفاتيكان، رغم ما لاقته من نجاح لافت على مستوى العالم. ولم تكن كتاباته الأدبية فقط هي التي تثير الجدل، بل كانت مواقفه السياسية موضع خلاف عالمي، حيث كانت نظرته للقضايا العربية مخالفة تماماً للتيار العام العالمي الذي تسيطر عليه صناعة الإعلام المتحيز للممارسات الاستعمارية في فلسطين، فقد وقف بجانب الحق الفلسطيني في التخلص من الاحتلال، ووصف أحوال الأراضي الفلسطينية تحت الاحتلال "الإسرائيلي" بأنها مثل معسكرات "أوشفيتز" التي كانت ألمانيا في عهد النازية قد أقامتها أثناء الحتلال النازي لبولندا، وكان هو الحل الأخير، كما رأى وزير الداخلية الألماني وقتها، لوضع حد للمسألة اليهودية، حيث كان الإعدام فيه يتم من خلال غرف الغاز، وبالطبع لم تكن آراء مثل هذه لتمر دون أن تثير عليه المتاعب وتجر عليه الغضب من أطراف كثيرة،
وكانت آخر المتاعب التي تعرض لها عندما استثنت حكومة البرتغال روايته "الإنجيل بحسب يسوع المسيح" من مجمل أعماله أثناء ترشيحه لجائزة أدبية عام 1992م، فرحل إلى أسبانيا، وظل مقيماً بها حتى لحظات حياته الأخيرة.
من أقوله:
إذا كنا نحكم على العبارات القولية المختصرة بأنها نتيجة لخبرة الحياة، وعصارة التفكير، وهي المؤشر على ما وصل إليه الإنسان في الحياة من تجارب عديدة، وتراكمات لتطوير الذات من خلال الغوص في حقائق الحياة والإنسان، فإن هذا الحكم أكثر ما ينطبق على جوزيه ساراماجو الذي يقول:
ـ للهزيمة وجه حسن: إنها غير نهائية، وللانتصار وجه قبيح: إنه دائماً نهائي.
ـ الرجل المعاصر له ثلاثة أمراض: عدم الاتصال، والثورة التكنولوجية، والحياة المركزة في نجاحه الشخصي.
ـ ما نحن إلا ذكرياتنا والمسؤولية التي نتحملها، فمن غير ذكرى لا وجود لنا، ومن غير مسؤولية لا نستحق الحياة.
ـ داخل كل منا شيء لا اسم له، هذا الشيء هو نحن أنفسنا.
ـ أعتقد أننا جميعاً عميان، عميان نستطيع أن نرى، لكننا لا ننظر.
ـ هناك من يقضي حياته كاملة في القراءة دون أن يحقق شيئاً أبعد من ذلك.. فلا يدرك أن الكلمات ما هي سوى أحجار مرصوصة لنعبر من خلالها للضفة الأخرى من النهر.. وهذه الضفة هي الأهم.
ـــــــــــــــ
(1) صـ 162 ـ الذكريات الصغيرة ـ جوزيه ساراماجو ـ ت: أحمد عبد اللطيف ـ الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة ـ 2008م.
(2) صـ 18 ـ المصدر السابق.
(3) صـ 57 ـ المصدر السابق.
(4) صـ 142 ـ المصدر السابق.
(5) صـ 19 ـ المصدر السابق. 

الاثنين، 14 نوفمبر 2011

طه حسين.. كفيف يرشد المبصرين إلى أنوار العلم والمعرفة

  لو نظرنا في حياته كدليل على رحلة الكفاح في مواجهة صعوبات الحياة لكانت مثالاً يحتذى لكثير من الناس، فقد كان قدوة ومثالاً يستحق أن يفكر فيه كل من يجد من الصعوبات أقل مما واجهه ويقعد عن العمل والسعي.. أما عن تحصيل العلم فتستحق حياته أن تُتخذ مثالاً عليه، سواء للمبصرين أو المكفوفين، فقد كان نموذجاً يستحق أن يقتدي به الجميع في تحصيل العلم والمعرفة.. كان أستاذاً جامعياً يحمل همَّ مجتمعه ويدافع عن حقه في الرفعة والنهضة، واستحق أن يكون مثالاً محرضاً لكل أستاذ جامعي تقعده إرادته عن النظر لما حوله، والاكتفاء بالتدريس داخل أسوار الجامعة، دون أن يتطلع لحل مشكلات مجتمعه أو ينظر خارج أسوار جامعته، التي يكتفي بها وكأنه "موظف علمي" يوصل محتوى العلم لطلابه ولا يعرف شيئاً عن تأثيره في المجتمع.. إنه طه حسين الذي شغل الناس في القرن العشرين واختلفت فيه الآراء وتعددت منه المواقف، بين محب شديد الحب له، ينسب إليه أفضل الصفات والسمات، وبين كاره ومتهم له بأشنع الأخلاق، وبين هذا وذاك يكون دائماً مصير العظماء الذين لا يقعون في "منطقة وسط" ويحلقون دائماً في الأعالي.
محمد اللباني: أصداء فلكية
معاناة البداية
  نشأ طه حسين نشأة فيها من المعاناة أكثر مما فيها من الراحة والطمأنينة، وتعددت صور المعاناة في حياته بما يكفي لتدمير الإرادة مهما كانت قوتها، وبما يدمر كل رغبات الارتقاء مهما كانت قدرتها. وقد صور بنفسه ذلك في سيرته الذاتية، بأسلوبه الراقي وتعبيره المميز، وقدرته على الوصف والتحليل. وأتى كتابه "الأيام" ليكون نقلة أدبية في تاريخ الرواية العربية عموماً، وفي تاريخ كتابة السيرة الذاتية بشكل خاص، ففي هذه السيرة الذاتية يحدثنا عن معاناته التي تضمنت مستويات متعددة من المعاناة.. معاناة من ألم فقد البصر منذ الصغر (في الثالثة من عمره)، ومعاناة التعلم في الكتّاب على يد معلم التحفيظ الذي لم تكن تصرفاته فوق مستوى الشبهات، وكان يمتلك من القسوة والتفرقة في المعاملة بين مختلف الطلاب على حساب عطاء أهلهم المادي ما جعله ينفر منه، ومن تابعه "العريف" أو المساعد الذي لم يكن أفضل منه بشكل من الأشكال. ومعاناة أخرى هي التمزق بين الرغبة في العلم والمعرفة وصعوبة الوصول لها بالطريق الذي يتمنى ويرغب، فقد كانت أمنيته في الرحيل إلى القاهرة والدراسة في الأزهر هي الأمنية التي ملكت عليه منافذ تفكيره ورغبته، ومما شجعه على ذلك أخوه الأكبر الذي كان يدرس في الأزهر، فقد كان طه حسين فرداً في كتيبة من الأبناء تتكون من 13 فرداً، ولم يكن لطفل في هذه المجموعة أن ينال من الرعاية ما يكفي، لكن طه حسين نفسه كان يرى أنه يعامل معاملة مميزة؛ نظراً لوضعه الخاص من الناحية الصحية، وبالطبع كانت هذه المعاملة التي رآها مميزة في صغره لم تكن مميزة بالفعل إلا بالنظر إلى حال أخوته وظروفهم الصعبة.
  يعيش مع ذاته منفرداً في طفولته، يستمع إلى ألحان شاعر الربابة حيناً، وإلى أغنيات الفتيات العائدات من الترعة عندما يجلبن الماء أحياناً، ويستمع إلى أصوات الخوف كما يسمع بشائر الفرح والغبطة، فقد اتخذ من أذنه وسيلة أساسية لاستيعاب العالم من حوله، ولم يجد غير الاستماع ممارسة يستطيع بها أن يشعر بما حوله ويتجاوب معه. واستطاعت ذاكرته أن تحفظ وتعي الكثير من مناقشات من يعدون أنفسهم علماء قريته أو القرى المحيطة، والذين كانوا يأتون لمجلس والده أو يستمع إليهم في محاوراتهم في أماكن أخرى. يقول عن نفسه متحدثاً عن فترة ما قبل الأزهر: "وكان صبينا يختلف بين هؤلاء العلماء جميعاً، ويأخذ عنهم جميعاً، حتى اجتمع له من ذلك مقدار من العلم ضخم مختلف مضطرب متناقض، ما أحسب إلا أنه عمل عملاً غير قليل في تكوين عقله الذي لم يخلُ من اضطراب واختلاف وتناقض".
الأزهر ومحاولة للفهم
  بعد مراحل من المعاناة وصل طه حسين إلى الأزهر واستمع إلى شيوخه فكانت صدمته بهؤلاء الشيوخ لا تقل عن صدمته بشيخ الكُتّاب الذي كان يحفظ عنده القرآن الكريم، ولكنها كانت صدمة من نوع آخر، لقد كانت صدمته من طريقة التعليم القائمة على التلقين، والبعيدة كل البعد عن التفكير وإبداء الرأي، فكثيراً ما تصادم مع معلميه في الأزهر على أساس رغبته في أن يفهم ما يسمع، ويناقش فيما يتعلم، لكن أمنيته في التعلم بهذه الطريقة تبددت هباء مع كثير من الأمنيات التي تبددت في حياته، فقد كانت العقول لا تستوعب ما يفكر فيه ولا ترضى بغير طريقة الحفظ والتلقين والنقل، وكأن العقل لم يخلق للإنسان كي يفكر به، بل خلق كي يحفظ من خلاله ما قاله الآخرون. لا يعني ذلك أن طه حسين كان الوحيد من بين زملائه الدارسين الذي يتمنى إبداء الرأي والتفكير، لكن يعني أنه كان الأكثر عزماً وإصراراً في تحقيق ما يتمناه من أسلوب في التعليم يقدم له ما يتمنى من ترقية ذهنية وعقلية. مرت عليه أيام الأزهر بحلوها ومرها، وكان رغم ذلك لا يكتفي بدروسه بل كان متنقلاً مثل الفراشة بين مختلف الزهور، فيذهب إلى مختلف الدروس ليستطيع تلقي العلم على كل الشيوخ.
يتحدث عن الصعوبات التي قابلته في حياته الجديدة في الأزهر قائلاً: "لا يستطيع أن يطلب إلى أخيه الإذن له بأن يحضر مجلس هؤلاء الشباب، ويستمتع بما فيه من لذة العقل والجسم معاً. لا يستطيع أن يطلب ذلك؛ فأبغض شيء إليه أن يطلب إلى أحد شيئاً. ولو قد طلب إلى أخيه لرده عنه رداً رفيقاً أو عنيفاً، ولكنه مؤلم له، مؤذٍ لنفسه على كل حال. فالخير أن يملك على نفسه أمرها، ويكتم حاجة عقله إلى العلم، وحاجة أذنه إلى الحديث، وحاجة جسمه إلى الشاي، ويظل قابعاً في مجلسه مطرقاً مغرقاً في تفكيره". فقد كانت لفترة الدراسة بالأزهر صعوباتها الخاصة بها، لكنه لم يترك شاردة أو واردة تمر على أذنه إلا سجلها في ذاكرته، واستطاع من خلال ذاكرته الواعية أن يقدم "نماذج بشرية" في صورة سردية محكمة لكثير من الدارسين في الأزهر، فمنهم من كان يسعى لطلب العلم باجتهاد وإخلاص، ومنهم من كان يبحث عن شهادة يتفاخر بها اجتماعياً، وثالث يبحث عن العائد المادي الذي يستفيد به إذا حصل على شهادة "العالمية" من الأزهر، والعالمية هو اسم الشهادة العليا بالأزهر والتي كانت تؤهل الحاصل عليها للتدريس بالأزهر، ولم يتوقف عند ذلك بل وصف حالة الحارة المصرية التي كان يعيش فيها في سكنه مع زملائه الأزهريين، ورصد أنماطاً من الشخصيات والطباع وأساليب الحياة والعيش في تلك المناطق الفقيرة على المستوى المادي، لكنها غنية على المستوى الإنساني.
الابتعاث للخارج
  سمع خبراً عن حاجة الجامعة المصرية لابتعاث دارسين إلى الخارج للدراسات العليا في أوروبا، وكان من غير المتصور أن يتقدم لها أحد المكفوفين، إضافة لعدم إجادته للغة الفرنسية، فشروط التقدم من الناحيتين العلمية والصحية لم تكن تنطبق على طه حسين، لكن شروط الطموح العلمي والتطلع للارتقاء في مجالات العلم والمعرفة كانت تنطبق عليه تماماً، وقد يكون لديه منها ما يزيد عن المطلوب. يتحدث عن هذه الواقعة في كتابه "الأيام" ليذكر أنه قد أرسل خطابين إلى رئيس الجامعة قوبلا بالرفض في كل مرة، لكن رأفة به ورغبة من مجلس الجامعة في التخلي عن رفضهم دون جرح مشاعره وعده المجلس بالنظر في طلبه العام التالي، بعد أن يكون قد تحسن مستواه في اللغة الفرنسية أو حصل على شهادة العالمية (الدكتوراه) من الأزهر، وإذا به يفاجِئ إدارة الجامعة في العام التالي بالحصول على شهادة العالمية مع تحسن في مستواه في اللغة الفرنسية، فما كان منهم إلا الموافقة على طلبه مضطرين؛ نظراً لما وعدوه به قبل ذلك، وبسبب قطعه كل سبل الرفض التي كانوا يدعونها قبل ذلك.
مشروعه الفكري
  لو أردنا أن نلقي ضوءاً، ولو قليلاً، على المشروع الفكري لطه حسين لضاق المجال عن ذلك، فقد تعددت وتنوعت اهتماماته الفكرية والأدبية فغطت الكثير من قضايا الأدب والفكر في التراث العربي، وطريقته في رؤية هذا الأدب وتقييمه، واستنتاج حياة القدماء من خلاله، وقد يتساءل متسائل، وما الجانب المؤثر في حديثه عن القدماء وعن تراثهم وأدبهم ومجتمعهم؟ ستتضح الإجابة من خلال كتابات طه حسين ذاته، حيث يأخذك طه حسين في كتابته في رحلة شيقة يربط فيها بين الحاضر والماضي، ومن خلال تفسير كثير من قضايا الحاضر من خلال العودة بها إلى التراث، والبحث عن طبقات هذا التراث وتراكمها في أنفسنا وحياتنا وكيف تؤثر علينا، فكان يقرأ الماضي وذهنه منشغل بالحاضر، ويتحدث عن الواقع وفكره مهتم بالماضي، يبحث عن التأثيرات المتبادلة بين عصر وآخر، يأخذ الفكرة الواحدة فيتجول بها بين أروقة التاريخ ليصل إلى بذورها الأولى وتغيرات العصور بها وتبدلاتها مع الواقع الاجتماعي إلى أن وصلت لشكلها وصورتها الحالية، فيدهش القارئ لصبره على هذا التتبع والقدرة على التركيز الذهني والفكري الذي يستطيع من خلاله أن "يفكك" ويبسط أعقد الأفكار وأصعب القضايا.
  فتعددت اهتماماته من موضوعات في النقد الأدبي وطريقة قراءة الشعر والنثر ورؤيته في هذه القراءة إلى وسائل التعرف على جودة الأدب وقدرة الأديب على التأثير في واقعه المحيط به وفي مَن يقرأ له، حيث يأخذ طه حسين بيد القارئ خطوة بخطوة نحو فهم الأدب ومعرفته وفهم القضايا الفكرية والاستفادة منها، فيبدأ القارئ في رؤية الأعمال الأدبية، سواء الشعرية أو النثرية، رؤية أخرى لم يعتد أن تكون هي طريقته التي يرى بها. فطه حسين يجعل من قارئه، الذي يفهمه جيداً، إنساناً آخر في الفهم والرؤية وطريقة تحليل الأمور، فسواء اتفقت معه كقارئ أو اختلفت فإنه سيغير من طريقتك في التفكير، ويعدل من مستوى رؤيتك للأمور.
  كتب في التاريخ الإسلامي "على هامش السيرة" فكان أسلوبه فريداً في طريقة العرض الروائي لأحداث السيرة النبوية، فقد استوعبها طه حسين جيداً وقرأها مرات ومرات من كتب القدماء، ثم أملاها بأسلوبه السلس وبطريقته التعبيرية المتميزة، فكانت السيرة النبوية في كتابه كأنها رواية مكتوبة في العصر الحديث، بكل عناصر الرواية من شخصيات وأحداث وزمان ومكان، وكان هدفه من ذلك أن يعمل على تقريب السيرة من أذهان الناس الذين لا يستطيعون قراءة السيرة في مصادرها الأصلية أو لا يقدرون على قراءتها، أو يقدرون ولكنهم لا يصبرون على أسلوب كتابة القدماء وطريقتهم في رصد الأحداث والوقائع، يقول طه حسين في مقدمة الكتاب: "فليس في هذا الكتاب إذاً تكلف ولا تصنع، ولا محاولة للإجادة، ولا اجتناب للتقصير، وإنما هو صورة يسيرة طبيعية صادقة لبعض ما أجد من الشعور حين أقرأ هذه الكتب التي لا أعدل بها كتباً أخرى مهما تكن، والتي لا أمل من قراءتها والأنس إليها، والتي لا ينقضي حبي لها وإعجابي بها، وحرصي على أن يقرأها الناس. ولكن الناس مع الأسف لا يقرؤونها؛ لأنهم لا يريدون أو لأنهم لا يستطيعون. فإذا استطاع هذا الكتاب أن يحبب إلى الشباب قراءة كتب السيرة خاصة، وكتب الأدب العربي القديم عامة، والتماس المتاع الفني في صحفها الخصبة، فأنا سعيد حقاً، موفق حقاً لأحب الأشياء إلىّ، وآثرها عندي".
المثقف والسلطة
  دائماً ما نجد العلاقة بين المثقف والسلطة تمثل حالة من حالات الالتباس وسوء الفهم في مجتمعاتنا، حيث يمثل المثقف جانباً من جوانب "الإزعاج" للسلطة، فتحاول أن تستوعبه في أية صورة من الصور التي تصب في مصلحته الشخصية، فتقدم له المكانة أو الوظيفة التي تجعله يتحول إلى تابعٍ لها في فكره وسلوكه، لكن ما حدث لطه حسين كان على العكس تماماً من هذه القاعدة، فقد استفاد من السلطة في تحقيق مشروعه الفكري والثقافي أكثر مما استفادت منه السلطة في تثبيت دعائمها وقوتها.
  وصل طه حسين إلى مرتبة رفيعة من مراتب السلطة، وخاصة في المجال العلمي الجامعي، فأسس جامعة الإسكندرية، التي عدت إضافة نوعية وكمية للتعليم الجامعي في عصره، واتجه إلى المجتمع فأنشأ المجلس الأعلى للثقافة، وقام من خلاله بكثير من المشروعات الثقافية التي أحدثت أثراً واضحاً في المجتمع بما قدمته من "خدمة" ثقافية للجميع، وعندما أصبح وزيراً للمعارف عمل على تطبيق مشروع عمره، وهو "جعل التعليم كالماء والهواء" للجميع، ونجح في تطبيق مجانية التعليم لجميع المصريين؛ مما أحدث نقلة نوعية في حياة مصر ما قبل الثورة، وسمح لكثير من الفئات أن تنال تعليماً لا يقل في جودته عما كان يحصل عليه أبناء الأغنياء ويقتصر عليهم، فتكونت قاعدة من المثقفين والمفكرين وأساتذة الجامعات من فئات الطبقة الوسطى التي كانت تنتظر دورها في المجتمع، ولم تستطع القيام به إلا عند تحقيق مجانية التعليم، التي أفسحت المجال واسعاً أمام استقطاب مجهودات تلك الفئات التي كانت محرومة من المشاركة في المجتمع، رغم طاقتها العالية وهمتها في المشاركة المجتمعية.
في الشعر الجاهلي
  لم يكن لكتاب أن يحدث تلك الضجة التي أحدثها كتاب "في الشعر الجاهلي" لطه حسين لو كان موضوعه فقط هو الحديث عن الشعر الجاهلي، لكن ما أحدثه من ضجة وخلاف في العقد الثالث من القرن العشرين كان يعود إلى "المنهجية" العلمية التي يطرحها طه حسين في الكتاب. فلم تكن الدراسات الأدبية والفكرية في مجتمعاتنا التي تعودت على السائد والمتعود عليه من المناهج التراثية في الرؤية والنظر أن ترضى بتلك المنهجية التي أراد من خلالها طه حسين أن يحرك المياه الراكدة في الحياة العلمية العربية. وكل ما أراد أن يفعله هو أن يفك الاشتباك القائم بين الدين والعلم بطريقة تحفظ للدين مكانته، وتجعل العلم على بينة مما يفعل، ففرق في دراسة التاريخ بين المعتقد الديني الذي يحث الإنسان على الأخذ بالوقائع التاريخية موقع التسليم والإيمان بحسب ما ورد في الكتب الدينية، وبين دراسة التاريخ كعلم يحتاج إلى أدلة برهانية مادية وغير مادية يحتاج إليها العالِم لكي يسمى علمه علماً، وبدون تلك الأدلة "العلمية" لا يمكن أن يسمى علماً، بل يمكن أن تعد الأحداث التاريخية أو الوقائع التاريخية الواردة في النصوص الدينية موضوعات إيمانية تقوم على التسليم بصحتها، لكنها لا تلزم العالِم الذي يجب أن يتجرد من عقيدته الدينية عند القيام ببحثه التاريخي أو عند القيام بممارساته العلمية التي يجب أن يتجرد فيها من جميع العواطف والمصادرات الأولية، بما فيها المعتقدات الدينية.
  لم يكن ذلك المنهج العلمي إلا صدمة أصابت الأوساط المحافظة والتراثية والعقول المتحجرة التي لا ترى الحقيقة إلا من جانب واحد، ولا تستطيع أن ترى وجهاً آخر للحقيقة مهما تعددت وجوهها، ومهما اختلفت زوايا النظر أو التحليل؛ لذلك قامت قيامتهم على الكتاب، ودخلت السياسة وتصفية الحسابات السياسية طرفاً في الموضوع، كما يحدث دائماً، أو كما حدث في أحداث مصادرة الكتب أو الثورة عليها بعد ذلك وطوال القرن العشرين، فقد عم السخط والغضب على الكتاب وعلى صاحب الكتاب مبتدئين بتقديم بلاغ للنائب العام متهمين طه حسين بالخروج عن الدين، وتتداعى الأحداث وتجرى التحقيقات... لكن كانت المفاجأة التي صدمت كل الاتجاهات المتعصبة للقديم، فقط لأنه قديم، والتي لا ترى غير رأيها، وذلك في قرار وكيل نيابة مصر وقتها محمد نور الذي أبدع في صياغة وثيقة أدبية في غاية الدقة من حيث إلمامه بالموضوع وسعة ثقافته وإحاطته بالقضية بشكل عام، فيتحدث فيها عن الجوانب الفكرية والعلمية والقانونية للقضية، ثم يختتم مذكرته قائلاً: "إن للمؤلف فضلاً لا ينكر في سلوكه طريقاً جديداً للبحث حذا فيه حذو العلماء من الغربيين... وحيث إنه مما تقدم يتضح أن غرض المؤلف لم يكن مجرد الطعن والتعدي على الدين بل إن العبارات الماسة بالدين التي أوردها في بعض المواضع من كتابه قد أوردها في سبيل البحث العلمي مع اعتقاده أن بحثه يقتضيها... وحيث إنه من ذلك يكون القصد الجنائي غير متوفر.. "فلذلك" تحفظ الأوراق إدارياً... محمد نور رئيس نيابة مصر.
  ويرحل طه حسين، عام 1973م، مخلفاً وراءه تراثاً فكرياً وأدبياً ضخماً، والأهم من ذلك أنه رحل مخلفاً أجيالاً من الذين استفادوا من تجربة مجانية التعليم التي كافح من أجلها، إضافة لعدد من الذين حملوا أفكار التنوير التي قدمها، ويكافحون قوى الظلام الفكري في سبيل تقديمها لمجتمعهم؛ بهدف منح العقل مكانته التي يستحقها في الفكر والأدب والمجتمع.

الأحد، 9 أكتوبر 2011

لعبة الأقنعة في طقوس إشارات ونّوس*

محمد إسماعيل اللباني
  القناع تقنية مسرحية استُخدمت في فترات تاريخية مختلفة، وكان القناع الذي يرتديه الممثل هو المعبر عن دوره في المسرحية، ولكن الحياة الاجتماعية قد تفرض على الإنسان أقنعة تتجاوز أقنعة المسرح وتتفوق عليها كماً وكيفاً، فلا أحد يعيش في مجتمع من المجتمعات دون عدد من الأقنعة التي يحاول من خلالها أن يواجه مواقف الحياة المختلفة، سواء أكانت هذه الأقنعة ظاهرة أو متخفية، وسواء أكانت عن يقين أو تصنع، فمواضعات الحياة الاجتماعية تفرض على الإنسان طغيانها الذي يمنعه من الكشف عن مكنونات نفسه بسهولة. ولا ترتبط "لعبة الأقنعة" بمجتمع دون آخر، بل إن نسبتها تتفاوت في المساحة الزمنية للاستخدام، فكلما كان المجتمع على درجة من التقدم الحضاري وجدنا أن المدة الزمنية للاحتياج للتقنع أمام الآخرين تقل، بينما تزداد مع تراجع مجتمعه في سلم الحضارة، وما أقصده بالتحضر أو التراجع الحضاري ليس الوصف المرتبط بالقدح أو المدح، بل إن المقصود المحدد هنا أن يكون المجتمع منتمياً لحياة المدينة والمدنية الحديثة، بما فيها من احترام للخصوصية الفردية وللرأي الآخر ولمساحة الاختلاف بين الأفراد.
أما المجتمعات التي تتراجع فيها نسبة التحضر فهي المجتمعات ذات البنية التقليدية التي تفرض على أفرادها "روح الجماعة" في كل ما يفعلون، وفي كل ما يأتون به من تصرفات، وتحاسبهم على أقل هفوة يقعون فيها؛ ومن هنا يتولد الصراع بين ما يتمنى المرء أن يعبر عنه من آراء وما يريد أن يأتيه من أفعال فيحتاج إلى مداورة هذا ومجاراة ذاك، وتتفاوت درجات التعبير عن ذاته لديه؛ حتى يصل إلى درجة معقولة من الأمان الاجتماعي الذي يقيه التعرض للاتهامات أو التشنيعات، فالانتماء إلى الجماعة ونيل رضاها فطرة إنسانية يسعى الإنسان في كل المجتمعات لإشباعها وتحقيقها.
 ونجد الكاتب المسرحي سعد الله ونوس قد جمع بين النص المسرحي والأقنعة الاجتماعية ببراعة واضحة، فيتحول المسرح من مكان لارتداء الأقنعة التي يتطلبها الدور، كما كان يحدث قديماً، إلى ساحة لكشف الأقنعة والمصارحة عن دواخل النفوس وعُقد النفس، حيث يعري الكاتب تلك الانتكاسات النفسية والاجتماعية في صورة حالات إنسانية قلقة، حالات معذبة في موقفها من الحياة، واختياراتها تجاه مواقفها، وهي ذاتها الحالات الإنسانية التي نراها حولنا، والتي نكون جزءاً منها، ولكن فعاليات الحياة اليومية تخفي عنا بؤرة التركيز التي يحققها النص المسرحي، كما تخفي عنا هذه الحالة، عندما تختلج الصراعات في أنفسنا، فننشغل بتلك الفعاليات اليومية دون أن نحسم أمورنا.
فأتى النص المسرحي "طقوس الإشارات والتحولات" لسعد الله ونوس ليكشف لنا، في بؤرة الأحداث، ما ننشغل عنه من صراع داخلي في نفوسنا، وما يصطرع في نفوس الآخرين دون أن يفصحوا لنا عنه، مرتكزاً على التاريخ في زوايا أحداثه المخفية وغير المؤثرة، لكن الكاتب يعيد إحياء الحدث البسيط ليجعل منه متناً تاريخياً جلياً، بعد أن كان هامشاً بسيطاً مهملاً وغير مؤثر، فيعمد إلى حدث تاريخي عابر، لم يكن مؤثراً أو مهماً في مجرى أحداث زمنه، بل كان حدثاً يومياً عادياً، وهو إلقاء القبض على كبير الأشراف في دمشق منتصف القرن التاسع عشر، ليتخذ الكاتب من هذا الحدث مرتكزاً للغوص في حالتنا الإنسانية الراهنة.
فـ "وردة" التي تعمل في مجال استمالة الرجال، وتعقد لهم ليالي الطرب والسهر والأنس يُقبض عليها مع نقيب الأشراف، برغبة من قائد الدرك في تقوية شوكته، وفرض هيبته وسطوته على الجميع، فيدخل على نقيب الأشراف، أثناء سهرته مع "وردة"، ليلقي القبض عليهما بتهمة "التهتك والرذيلة"، وهنا تظهر حفيظة طبقة "الأشراف" في رفض هذا التصرف الذي يقلل من هيبتهم أمام العامة، وخاصة أن قائد الدرك قام بالتشنيع على نقيب الأشراف أثناء إلقاء القبض عليه، أما المفارقة فقد اتضحت في "المفتي" الذي وجد في ذلك إذلالاً للطبقة التي ينتمي إليها مع نقيب الأشراف، فعندما يأتيه الخبر يستنكر ما حدث، على الرغم من كراهيته لنقيب الأشراف وخلافة الدائم معه، حيث يرى فيما حدث فرصة للعامة كي يتدخلوا في حياة طبقته التي يجب أن تتكافل فيما بينها لموجهة طبقة العامة والبسطاء، وألا يُعطوا الفرصة للتدخل في مجريات أمور طبقتهم التي تتفوق على عامة الناس.
هذا الحدث التاريخي البسيط استطاع سعد الله ونوس أن يفجر من خلاله عدداً من الإشكالات النفسية التي تعتمل في دخيلة الإنسان دون أن يدرك أبعادها واشتباكاتها مع الوضع الاجتماعي، ودون أن يمتلك القدرة على مصارحة الآخرين بها، بل يخشى أن يصارح بها نفسه، فما يبدو أنه محافظة على "حالة الطبقة" من الناحية الاجتماعية يحمل تحته الكثير من الأهداف الذاتية والرغبات الفردية التي يحاول كل فرد من أفراد المجتمع أن يمررها لمصلحته الخاصة، فيمتلك القدرة على السيطرة واستغلال الآخرين، بما يمتلك من سُلطة. والسلطة إحدى أهم القضايا التي يناقشها النص المسرحي لسعد الله ونوس، حيث يستعرض أشكالاً مختلفة من احتمالاتها، فنجد السلطة الثقافية المتمثلة في المفتي الذي يحاول بشتى الطرق الممكنة السيطرة على العامة، من خلال ما يمتلك من "ميراث رمزي" ينال من خلاله احترام الناس وتقديسهم لشخصيته، بناء على احترام وتقديس الجانب الديني الذي يتقن عرضه واستخدامه مع الناس وقت الحاجة والضرورة، والسلطة السياسية التي يمثلها نقيب الأشراف نفسه عندما لا يدرك "قواعد اللعبة" بشكلها الخفي ومؤامراتها الدنيئة فيقع ضحية سذاجته، وسلطة الشهوة التي تحاول من خلالها "ألماسة" أن تضع الجميع أمام أنفسهم من خلالها، عندما يتكشف لنا كيف يلهث الجميع وراءها في الخفاء، بما فيهم المفتي نفسه، ويلعنونها في الجهر والعلن.
فالمفتي يعترف لها ويعبر عن ملاحقتها له في الفكر والتمني قائلاً: "لا أدري إن كان وسواساً، أو حمقاً، أو جنوناً. منذ التقيتك وصورتك تلاحقني. إنك قلق في الفؤاد، واضطراب في الروح. لا أدري ماذا أقول.. ولكن أرجو أن تعقلي، وأن تقبلي عرضي".(1) وكان عرضه هو الزواج بها، على الرغم من لعنته الدائمة لها أمام الآخرين!
ولكن ذلك لا يؤجل رغبة "وردة" في تحدي كل تلك السُّلطات المحيطة بها من كل اتجاه، فتسير في طريق "الرذيلة"، بالمفهوم الاجتماعي، وهي في الحقيقة تسير في طريق الصدق، بمفهومها الخاص، أو بمفهوم الكاتب الذي اتخذ من "وردة" وسيلة لكشف الأقنعة التي يتقنع بها الجميع، وكانت هي الخيط الذي يشد الشخصيات المختلفة لدائرة الكشف والمصارحة، فوردة لم تخدم نفسها كشخصية في الواقع الاجتماعي، حيث أصابتها اللعنة من المجتمع، بل خدمت الكاتب المسرحي باعتبارها الشخصية المسرحية التي كانت عِماد العمل المسرحي في طرح الفكرة التي أرادها الكاتب متفجرة بطاقة هائلة من المصارحة بعد كثير من الكبت والمعاناة.  
وتأتي جُمل سعد الله ونوس المسرحية كالطلقة التي تخرج من مكمنها متجهة صوب الهدف المقصود فتصل له دون خطأ أو انحراف عن تأدية هدفها، وتتراوح بين الإيجاز والإطالة، وتأتي الإطالة في مواضع تكون مطلوبة فيها تماماً لتحقيق الجانب الفكري والشعوري للشخصية، ومن ذلك قول ألماسة: "أول المقامات في رحلتي هو أن أرمي وراء ظهري معاييركم. ينبغي أن أتحلل من أحكامكم، ونعوتكم، ووصاياكم كي أصل إلى نفسي. ينبغي أن أتجاوز خطر الانتهاك كي ألتقي جسدي، وأتعرف عليه. صنعتم مني عورة هشة يمكن أن تنتهكها الكلمة والنظرة واللفتة. وجعلتم دأبكم انتهاك هذه العورة، فصرنا جميعاً زواحف تتناهش في مستنقع من الأكاذيب والمظاهر والقيود. وأنا شيخ قاسم قررت أن أخرج من المستنقع النتن، وأصير بحراً لا ينتن". (2)
أما الفكرة فإنها تأتي لدى ونّوس في الأولوية، وخاصة في المسرحية موضوع التناول، لكنها (الفكرة) لا تجعل الكاتب يفقد اهتمامه بالجملة المسرحية المصاغة بإتقان يجعلها ثوباً ملائماً لفكرة قوية تتناسب معها، إضافة إلى البنية المسرحية المعتمدة على الحدث التاريخي مع الانطلاق إلى الهم الاجتماعي المعاصر، بل إلى الشأن الإنساني العام، كل ذلك في إطار بناء مسرحي متماسك يسيطر الكاتب على مفاصله ومنعطفاته، مشكلاً لوحة مسرحية مكتملة الأبعاد والخطوط والأجزاء، مع الميل إلى النمط المسرحي الكلاسيكي المناسب للموضوع، دون كسر الحائط الرابع (كما فعل ونوس نفسه في مسرحية "حفلة سمر من أجل 5 حزيران" مثلاً).
  وفي المحصلة النهائية نجد المسرحية في الغالب تنقل "طقوسها" للمتلقي الذي لا يمكن أن يتجاهل كثيراً من إشارات وتحولات النفس البشرية، حيث لا يمكن للقارئ، بعد قراءة النص المسرحي أو الانتهاء من مشاهدة العرض المسرحي "طقوس الإشارات والتحولات"، أن ينسى العبارات المسرحية المعبرة عن حالة القلق الأنطولوجي (الوجودي) للشخصيات، وخاصة وردة التي تجردت من اسمها القديم، رمزاً للتخلص من كل قيود الماضي، وأسمت نفسها "ألماسة"، ويأتي الرمز المسرحي عند ونوس ليكون مشتبكاً مع دراما المشهد المسرحي، فتُقتل ألماسة عندما يجمع كلُّ الناس في المجتمع أنها تهدد وجودهم وسلامهم الاجتماعي المخادع، عندما رأوا أنهم إذا تركوها فإنهم يحتاجون لنوع آخر من الحياة القائمة على الصراحة والصدق، وهي نوعية من الحياة لم يتعودوا عليها، وهي حياة، كذلك، تهدد الكثير من المصالح والارتباطات التي تأسست على حياة الكذب والرياء والخداع، وعند ذلك يسجل الكاتب كلمته على لسان ألماسة عند قتلها، ولا يجعل تضحيتها بحياتها تذهب هدراً فتقول لقاتلها: "أنا يا صفوان حكاية، والحكاية لا تُقتل. أنا وسواس وشوق وغواية، والخناجر لا تستطيع أن تقتل الوسواس والشوق والغواية"(3).
*سعد الله ونوس ـ طقوس الإشارات والتحولات ـ دار الآداب ـ بيروت ـ 1998.
(1) طقوس الإشارات والتحولات صـ 102.
(2) نفسه صـ 101.
(3) نفسه صـ 150.
يمكن تحميل نص المسرحية من الوصلة التالية:

      

الأربعاء، 24 أغسطس 2011

قـوة المعرفة

محمد إسماعيل اللباني
  لماذا نشعر بالخوف من ارتياد الأماكن الجديدة أو مقابلة أناس جدد؟ أو على الأقل، لماذا نحس بالتهيب والتوجس من ملاقاة أي جديد مهما كان نوعه؟.. هل معرفتنا بالأماكن والأشخاص والأشياء تمنحنا قوة من نوع ما؟ هل التعود يحمينا من قسوة المواجهة مع الأشياء الجديدة؟
  المعرفة قوة، والجهل ضعف.. فمعرفتنا بشيء تجعلنا لا نخاف مواجهته بقدر مبالغ فيه، مهما كانت قوته، ومهما كان مهدداً لشيء متصل بوجودنا ومعيشتنا، وجهلنا بشيء آخر يجبرنا على التوجس منه، مهما كان في طبيعة مكوناته الأساسية غير ضار لنا أو لا يمثل خطراً علينا من نوع ما، بل قد يكون مفيداً لنا في بعض الأحيان أن نتعرف مكوناته.
  الإنسان مفطور على التلاؤم والألفة ويحب التعود على الأشياء والطمأنينة لها، ووسيلته لتحقيق ذلك هي المعرفة، فالمعرفة أداة نستطيع بها أن نقتحم المجهول، ونعرف خبايا الأشياء والناس، ولكننا قليلاً ما نمتلك القدرة الملائمة على استغلال المعرفة، أو بمعنى أدق، لا نجد في أنفسنا الطاقة الكافية للوصول إلى المعرفة التي تزيل حجب الجهل، وتبعد عنا أشباح المجهول.
  فلا أحد يحب الجهل، ولكن لا يمتلك الجميع القدرة للسعي من أجل القضاء عليه، فبعضنا ينتظر أن تأتيه المعرفة وهو جالس في مكانه، وبعضنا يحب من يقدم له المعرفة جاهزة دون أن يبذل مجهوداً يذكر، ولكن القليل منا مَن يقتحم أهوال النفس التي تشده للكسل ويتسامى إلى مراتب الباحثين عن المعرفة، أو المتطلعين إلى الحقيقة.
  المعرفة ثروة نستخدمها وقتما نشاء، فنحصل من خلالها على قتل الخوف من المجهول، أو التبصر الواعي بما يدور حولنا، أو النظر العميق لطبائع الشخصيات وأخلاقيات الناس، أو نستثمرها في تحصيل منافع مادية نحتاج لها في حياتنا. وثورة المعلومات التي أطاحت بكل الثورات السابقة عليها، سواء أكانت الثورة الزراعية أو الثورة الصناعية، استطاعت أن تُحدث نقلة حضارية واسعة في خلال عدد محدود من السنوات.. لماذا؟ لأنها ثورة المعرفة، أي ثورة العلم، وثورة الوعي؛ لذلك فقد ظهرت مصطلحات تصف عصرنا بملامح هذه الثورة المعلوماتية فيطلق على المجتمعات التي تنتج المعلومات "مجتمعات المعرفة" وهي المجتمعات التي تقود عصرنا الحاضر، وهي التي من المنتظر أن تسيطر على مجتمعات المستقبل، فحتى مجتمعات القوة العسكرية لم تعد تمثل قيمة إن لم تكن هذه القوة قائمة على المعرفة (بمعناها المعلوماتي والتقني والتطبيقي والتكنولوجي).
  لكن ما أغلب ظواهر استخدام المعرفة في مجتمعاتنا، وخاصة في وسائل الإعلام؟ إنها المعرفة التي تقوم على السرعة والتعجل والقشور، فالمسابقات التي تزدحم بها الفضائيات تقدم المعلومات التافهة بدأب وإصرار، والمتربعون على قمة الهرم المعرفي في شتى المجالات: الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية يسعون إلى إيصال المعرفة القائمة على الوهم أكثر منها معرفة قائمة على الوعي، فكل من امتلك منبراً إعلامياً يخاطب الجماهير من خلاله يحاول بشتى الطرق الممكنة أن يثبت نقطتين في غاية الأهمية بالنسية له: النقطة الأولى، أن يثبت للناس أنه الأعلم والأشهر والأقدر من غيره على معالجة كل ما يطرح عليه من أسئلة. والنقطة الثانية، أن يعرض رأيه في شكل حقيقة مطلقة لا تقبل الجدل ولا تتحمل المناقشة. والجالسون أمام القنوات الفضائية يشتد إعجابهم بمن تتوافر لديه القدرة على توكيد هاتين النقطتين، على الرغم من أنه بسلوكه هذا يكون ضد العلم وضد المعرفة، فهم جالسون في أماكنهم لا يريدون أن ينشغلوا بالتفكير بين آراء مختلفة فيعجبهم من يعرض رأيه بالقوة الكاملة ودون أن يسمح لغيره بالاختلاف في الرأي، وكل فرد من المشاهدين له "خريطة" مشاهدة محددة لا يريد أن يشتت نفسه في غيرها، ولا يسعفه الوقت لمتابعة مئات القنوات، بل لم يتدرب على التعامل مع مختلف مصادر المعرفة (من جرائد ومجلات وكتب وشبكة معلومات وحياة يومية) فيُعجب بمن تصادف أن يكون المتحدث واقعاً في محيط خريطته، فيتيه إعجاباً به ولا يسمح لنفسه بالتفكير في رأي مخالف، فيفقد القدرة على التفكير الذاتي من ناحية، كما يفقد القدرة على الموازنة بين مختلف الآراء من ناحية أخرى.
  وبناء على ممارساتنا في مجال تلقي المعرفة وتناقلها، هل نحن بحق نتعامل مع المعرفة على أساس أنها مصدر قوة؟ أم نتسلى بها ونلوكها في أفواهنا لإضاعة الوقت، مثل أحاديث النميمة، دون أن نقدِّر قيمة الكلمة أو مسؤولية المعلومة أو خطورة المعرفة؟!